يحملون قواريرهم في أولى نسمات ليلة قرويَّة عابقة برائحة الطين، وأماني صغيرة تُحمل معهم مثل أطفال تتعلَّق بأطراف قمصانهم الترابيَّة اللون، هذه القوارير الشفَّافة أحيانًا والمخضَّبة بالطين أحيانًا أخرى، هي المعوِّل الوحيد الذي سيهذِّب صلف ليالي القرى عندما يوغل الليل في ظلمائه، منتشين مع الرائحة التي تصعد في أواخره لتفوح بهم، فتبات أرواحهم طافية رغم ثقل ما يحملون.
البطالة المجحفة، والوقت الذي ما زال يزحف على بطنه الفارغ، لم يتركا لهم مجرَّد التفكير في إذا ما كان يفعلونه صوابًا أو خطأً، وإذا ما كانت الحياة بمجملها في هذه القرية تدعو إلى الخلاص منها والخروج بعيدًا: هاهم وجدوا الطريق الذي يطوِّح بهاماتهم بعيدًا، الطريق الذي يسمح بالخروج من كلِّ شيء، عندما ينزحون كلَّ ليلة بعيدًا عن منازل القرية وعن آخر ضوء يسقط من مصابيحها الكسيحة، فيمتزجون بالحقول، في ظلام طاهر متصوِّف، وسكينة وخشوع يودعهما ليل هذه القرية في صدورهم، كأنَّ السماء تستوطن أرواحهم وتعلِّقها، لقد رفستها المدن الكبرى بعيدًا عنها، ومن أين لهم طعامًا في غير هذه المدن التي لا يكاد يصل عددها إلى مدينتين أو ثلاث، كل واحدة تبعد عن الأخرى مسافة بلدان عديدة، وجدوا الطريق الذي يخرجهم من القرية عبر حقولها البكر، كانوا يقتفون أثر الماعز عبر المنعرجات المحفورة بأخفِّها، محاذرين في خطاهم أن تقتلع حدًّا حجريًّا دون قصد.
تأسست دار ميلاد عام2015م بغرض اكتشاف ورعاية ونشر الأعمال الأدبية الجادّة التي تثري المشهد الثقافي المحلي والعالمي في مجال الرواية والقصة القصيرة والشعر والمقال والدراسات