
العجوز
35 ر.س
وضع رأسه في حجرها وبكى، فابتسمت ولم تبد رد فعل. حسدها: أيكون لغياب العقل والقدرة على التفكير هذا التأثير الساحر والصفاء الذهني اللا معقول؟ عقل صاف أبيض كورقة لم تسود بنقطة من ذاكرة، محت الماضي بكبسة زر ولا تسجل على شريط حياتها للحاضر شيئاً ولم ترسم مخططاً للمستقبل، الذاكرة كالبعير لا بد أن يكون في بطنه طعام ليجتره، يمضغه ثم يعيده إلى بطنه ثانية، فإذا خوى جوفه من طعام انتهت العملية، والذاكرة تعمل بنفس المبدأ الدؤوب في اجترار الأفكار والذكريات، وإعادة التفكير بها ثم صياغة تركيبها وتكوينها بشكل جديد حسب انطباعاتنا وتجاربنا الجديدة ووضعنا النفسي والاجتماعي ثم نعيدها إلى خزان الذاكرة فكرة جديدة طرية طازجة تلائمنا وتحقق لنا الرضا، ثم ما نلبث أن نجترها من جديد ونعيد تشكيل صياغتها بأسلوب جديد وهكذا دواليك، ذاتها الأفكار والأحداث ولكن العقل يسردها لنفسه بطرق شتى إرضاء لغروره أو طموحاته، أو تبريراً لأفعاله.. لذا حين نستعيد الذكرى ونكثر من التفكير لا يزيدنا خبرة في الحياة أو تجربة وإنما قلقاً فقط.. الإنسان لا يتعلم.. لا من تجاربه ولا من تجارب غيره كما يقولون، يجتر تجاربه السابقة لا غير. ظل نائماً في حجر العجوز متخيلاً الكلمات تدور في فضاء فم البعير، كأن وجهه في فم البعير يشاهده عن قرب يلوك الكلمات ويطحنها بأسنانه الكبيرة.. ثم ما يلبث أن يسحق رأسه سحقاً حتى أنه شعر بانطباق فكيه القويين على جمجمة رأسه ونفاذ أسنانه في جلده وخروجها بانتظام كمطرقة تضرب على رأس مسمار.. ثم يصير فتيتا منزلقاً على لسانه الضخم إلى فجوة بلعومه المظلمة.. كأنه عائد إلى العدم.
نسعى جاهدين لنوفر لكم كتب أصلية بأرخص الأسعار و شحن سريع إلى باب بيتكم